إن الصراع الدائر بين البشر ذو نزعة أصيلة تكمن في أعماق النفس الإنسانية, فالقوي يأكل الضعيف منذ أن كان يعيش في الكهوف, إلى يومنا هذا, حيث أخذ الصراع بين البشر أشكالا عدة, وقواعد جديدة أعطته تسمية الحرب بالمفهوم الحالي, واليوم يشكل الدين والإيديولوجيا أحشاء الصراع في العالم, ويتبادلا الأدوار في عباءة السياسة, والفكر هو العامل المشترك بينهما, وفي الماضي أصبحت الأفكار دين الأمم السالفة, وفي الحاضر أصبح الدين إيديولوجيا الأمم الحالية, وقدما في غير موضع كل منهما مساهمة جليلة في عمل تراكمي في مسيرة الحضارة الإنسانية, وكان من المفترض أن تقل درجة العنف مع هذا التطور في جوانب متعددة في الحياة, أما في بدايات مسيرة الحياة الإنسانية ربما البعض كان يعزو ذلك نتيجة الجهل, ولكن المفارقة أن وتيرة العنف ازدادت, وأن عدد الضحايا تناسبت طرداً مع هذا التطور, وقد جلبت له كل هذه المتاعب, وأيّاً من هذه الدوافع هو في المحصلة من الحصاد الفكري سواء كان سليل الدين أم سليل الإيديولوجيا, فالعلة ليست في الأفكار في أي زمان ومكان, ولكن العلة في حامل تلك الأفكار, ومادام الأمر كذلك ليصعب علينا أن نضع ناظماً فيما بين تلك المساقات الفكرية إضافة للتنمية الذاتية لحامل هذه الأفكار, وألا يكون كحامل الأسفار, فإن كان شراً يره, وإن كان خيراً يره, فتصعد حضارة وتأفل أخرى, وما بين الأفول والصعود تتضح الصراعات لحملة الفكر بجانبيه الإيديولوجي والديني, وقيل "الأمم المتطورة فاسقة الأفكار متدينة الأفعال, أما الأمم المتخلفة فاسقة الأعمال ومتدينة الأفكار" ولكن كثيراً ما تشتعل الحروب من وراء عصبية دينية, وتشعل إوار الحروب الطاحنة, وتستجير بالإيديولوجيا, وقد تخلصت أمم في التاريخ من سطوة الدين بعد أن أدماها نتيجة الانغلاق والغلو والتشبث بالقشور, ويصبح من هو فاغر عقله من الفكر, يحكم باسم الدين, ليصل بالناس إلى درجة الخروج من الدين ومن الملة, وهنا تكمن الكارثة, ويصبح الصراع مضاعف بين أبناء المجتمع, فالدين رسالة روحية سامية, ليشرق في روحك وعقلك بالقيم والمبادئ فتستوي بها نفسك, ويرشدك للعلم وينقذك من غياهب الجهل, ولكنه لا يمنحك سلطة, ومن ينتزع الدين للسلطة, فقد دس العلم, وخاب في السلطة, ويبدأ الصراع في مستويات متنوعة, وتتلون الأهداف, فكل الصراعات في لباس سياسي, وغاية اقتصادية, ووقود ديني.
الحروب كانت عملية تصادمية, وأخذ كل واحد منهم موقف الإبادة للآخر, وقد طغت الغرائز على ذهنية المدعي بالدين, وطارد ما جاء في الشريعة في عالم الخلود من الحوريات, وهو غير مدرك لحياته في الدنيا, وغير مخلص لها, بحثاً عن هذه الغرائز التي وجد نفسه في هذا المجتمع غير نافع وغير متوافق معه,ومن فوّض نفسه قيماً على البشر ومن يمنحه الدخول للجنة, ولم تكن منهجية الدين أن تدمر الحياة لكي تفوز بالآخرة, ومن لم يستطيع إعمار الأرض لا يستحق مكاناً في الجنة, لذا نرى الأغلبية ممن ينتمون إلى تلك القطعان الإرهابية, من المتخلفين فكرياً, والفاشلين في الحياة, وتم ضخ الفكر الديني المتطرف في عقولهم المتحجرة لتجييشهم ضمن ايديولوجيا دينية, ولغايات سياسية, في الوقت الذي خرجت شعوب تنادي بعزل الدين عن الدولة بعد أن أدمتها الحروب الدينية, وأرهقتها دون فائدة, ولم تجن منها إلا الدمار والخراب والقضاء على ملايين البشر, وصاغ منظروها منظومات فكرية جديدة باسم الإيديولوجيا, وبين تلك الصراعات وتناوبت فيما بينهما, فالحروب الصليبية من القرن الحادي عشر ولغاية القرن الثالث عشر, وكانت بهدف تحرير الأراضي المقدسة من الغزاة المسلمين, ولمساندة الإمبراطورية البيزنطية, وكذلك حرب الثلاثين عاماً في ألمانيا أيضاً بين الكاثوليك والبروتستانت, وصل إلى حد لا يطاق, وحصلت المجازر في محاكم التفتيش, حتى بدأ بالتحول من خلال آراء المفكرين في عصر النهضة, مثل كالفن للبروتستانت ومارتن لوثر للكاثوليك في القرن السادس عشر, ومقولته المشهورة "لا نريد كنائساً من ذهب, وقساوسة من خشب, ولكن نريد قساوسة من ذهب وكنائساً من خشب" مما شكل تحولاً في المساق الفكري من الدين إلى الإيديولوجيا, وأنشأ الغرب منهج الرأسمالية, وقد طغى على كل المشاهد الأخرى, ولكنه لم يلغ الدين, بل وضعه في ركن آخر, بما يسمى فصل الدين عن الدولة, في حين بقيت في المجتمعات الشرقية, وبعض بلدان العالم الثالث, أكثر تجسيداً لهذا الشكل, ولا أحد يختلف أن المسألة الدينية ذات بُعد فكري, وملامسة تلك الأفكار تحتاج إلى الترو والحذر, والدين والفكر لا يتصادمان إطلاقاً على حد قول أحد الفلاسفة المسلمين "فالفكر شرعة في الداخل, والشريعة فكر في الخارج" وإن مستويات التفكير الديني ليست باليسيرة, وما ينخرط فيه العامة والخاصة من الناس ليشيع نوعاً من الفوضى, مدعياً كل واحد منهم أنه وصي عن الإله, وهو الوكيل الحصري لتلك التعاليم, في وقت يجهل الكثير منها, ويصدقه العامة.
ليست المشكلة في الدين, ولكن المشكلة تكمن في المتدينين, وفي سلوكهم هذا مما ينعكس على الدين, والمتدين لها قد لا يمثلونها بقدر ما يبحثون عن مصالح كل فرد منهم, ويجدون ضالتهم فيها, ويجدون في ذلك أقصر الطرق في تولي السلطة الدينية, ويتخذها رداء لينطلي بها على العامة, وما يجري اليوم في الشرق الأوسط من حروب جذوتها الدين بما يسمى مصطلح الإسلام السياسي, وخلق نزاعات فيما بين الطوائف والنزاع الذي يشترك بين الإيديولوجيا والدين للتطور العلمي والمعرفي ومظاهر الحياة الأخرى, ولا بد من التخلص من تلك الحالات والبحث فيها مجدداً للوصول إلى الحالة التي يوجد فيها التعاضد بين الدين والإيديولوجيا من أجل سعادة المجتمعات, ونبذ كل الآراء المتطرفة مهما كان منشؤها, ومادام الدين جاء لخدمة الإنسان ومنبع الإيديولوجيا أيضاً هو ذلك الفكر الذي سعى جاهداً- ولا زال- من أجل سعادة الإنسان ورقية, إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
* عزيزي القارئ *
لقد قمنا بتحديث نظام التعليقات على موقعنا، ونأمل أن ينال إعجابكم. لكتابة التعليقات يجب أولا التسجيل عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي أو عن طريق خدمة البريد الإلكتروني