تميّز الخير منذ أن خلق الله هذه الحياة الدنيا بشفافيته ووضوحه، عرف عنه أنه كان عصاميّاً يكسب لقمة وجوده من عرق جبينه، ويرتدي ثيابه النظيفة الطاهرة التي يحيكها بيديه
ويرفض رفضاً قاطعاً ارتداء ملابس الآخرين أو حتى التفكير بتقليدها من هنا اكتسب شخصيته المميزة وطباعه الفريدة، وقد أحبه الناس لهذه الطباع وأكبروا فيه هذه السجايا.
لكنّ بعضاً من أولئك الذين يرمقون الخير بعين فيها ما فيها من الجحود ونكران الجميل والتحامل على الحقيقة، يصرّون على أنّ معالم الخير لم تعد واضحة، وربّما قادهم غلوّهم وتطرّفهم إلى القول إنّ الخير أصبح مسكوناً بسحاب كثيف من الغموض لأنه نزل من برجه العاجيّ ، واختلط بالمفاهيم الخلقية الأخرى كالنفاق والادّعاء وحبّ الظهور والتكبّر، إلى ما هنالك من صفات كان ينأى بنفسه عنها، وشيئاً فشيئاً أخذ يشعر بقدرته على التكيف معها، ومع مرور الزمن أصبحت علاقته وثيقة الصلة بها، حتّى إنّ ملامحه العامة اكتسبت نزراً قليلاً أو كثيراً من تلك المفاهيم، وبات التمييز بينه وبينها مسألة تحتاج إلى قدر لا بأس به من التركيز ودقة النظر.
وخلص هؤلاء إلى القول إنّ الخير لم يعد يحظى بتلك الهالة الفخمة من المهابة والجلال، ولم يعد الدم الأزرق يجري في عروقه، ومن هنا بات لزاماً عليه أن يرفق كتابه الواضح الغامض بكتاب جديد يحوي تعريفاً به ووصفاً دقيقاً لملامحه العامة والخاصة، وإلاّ أصبح مهدداً بفقدان الهوية وضياع الخصوصية.
وأوجدت هذه العصبة قاموساً جديداً للتعامل مع الآخرين، زعمتْ فيه أنّ الحذق والمهارة والشطارة أساليب متاحة للوصول إلى الهدف، وتبنّت القاعدة السياسية التي لا تنطوي على شيء من الخلق (( الغاية تبرر الوسيلة)).
والمعضلة الرئيسية في استعصاء مفهوم الخير على الفهم لدى هذه العصبة يكمن في طلبها الحصول على كل شيء مقابل الاكتفاء بالثناء على ما تحصل عليه فترة وجيزة من الزمن، ثمّ الانقلاب المفاجئ بعد ذلك على الشخص الذي أسدى إليها كماً وفيراً من الأيادي البيضاء، لتصبح تلك الأيادي بقدرة قادر سوداء قاتمة، فهو اليوم في نظرها عديم الخير، لا يمدّ يده لمساعدة الآخرين، والجناية التي يجنيها هذا الشخص في نظر منكري أياديه البيضاء ليس توقفه عن إسدائها بل عجزه عن تلبية الطلب باستمرار إذا كان وفق وسعهن أو إذا تضمن خروجاً على الأخلاق والأعراف والتقاليد.
وليت غلوّ هذه الفئة يقف عند حدّ معيّن،إذا لكان الخطب هيّناً، بل إنّا نراها تتكل على صلاتها المشبوهة بجهة ما تدّعي قدرتها على البطش بالآخرين، أو تستغلّ موقعاً فكرياً أو اجتماعياً معيناً، وتبدأ بتهديد الشخص الذي كان في نظرها حتى الأمس القريب بحراً زاخراً من المعروف والإحسان، فما باله اليوم يغدو في نظرها ساقية بائسة تتجمع فيها أقذار الدنيا كلها؟!.
لا ريب أنّ الفرد الذي ينتمي إلى هذه الفئة هو إنسان يدّعي الخلق في حين إنّ الخلق بريء منه براءة الذئب من دم يوسف، والخلق لا يعرفه بل ينكره، ورغم ذلك تراه يسهب في الحديث عن الفضيلة وعذوبة نبعها في حين لم تسعفه الفرصة للاقتراب من هذا النبع العذب، فمن أين يحقّ له الادّعاء أنه أهل لتقييم الآخرين وتوزيع مراتب التقديم والتأخير والرفع والخفض عليهم.
لقد جاء ببضاعة كاسدة عليه أن يعود بها من حيث أتى، لأنها بضاعة سيئة كسوء صاحبها ولن تلقى الرواج الذي ينشده لدى كلّ عاقل ورزين، يملك القدرة على التفريق بين الغث والسمين وتمييز الواحد من الآخر.
وليعلم أنّ إذاعته التي تنفث السمّ والحد على الإنسان الذي يريد الإساءة إليه هي إذاعة منبوذة لا يسمعها أحد إلاّ عقله الفارغ المريض، لأنّ الخير معروف وليس محتاجاً بطاقة شخصية يمنحها مثل هذا الشخص المريض الذي ستنتهي به الأيام إذا استمرّ على ما هو عليه من سلوك مريب إلى مشفى الأمراض العقلية ليجد الجنون المطبق بانتظاره على أحرّ من الجمر.
* عزيزي القارئ *
لقد قمنا بتحديث نظام التعليقات على موقعنا، ونأمل أن ينال إعجابكم. لكتابة التعليقات يجب أولا التسجيل عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي أو عن طريق خدمة البريد الإلكتروني